الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
فالضميران للكفار أيضًا وسائر ما في النظم على حقيقته.وأخرج ابن المنذر. والطبراني. والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن المراد أنهم عضوا أيديهم غيظًا من شدة نفرتهم من رؤية الرسل وسماع كلامهم، فالضميران أيضًا كما تقدم، واليد والفم على حقيقتهما، والرد كناية عن العض، ولا ينافي الحقيقة كون المعضوض الأنامل كما في قوله تعالى: {خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119] فإن من عض موضعًا من اليد يقال حقيقة إنه عض اليد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ان المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم تعجبًا مما جاء به الرسل عليهم السلام، وهذا كما يضع من غلبه الضحك يده على فيه، فالضميران وسائر ما في النظم كما في القول الثاني، وجوز أن يرجع الضمير في {أَيْدِيهِمْ} إلى الكفار وفي {أَفْوَاهِهِمْ} إلى الرسل عليهم السلام، وفيه احتمالان. الأول أنهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل عليهم السلام أن اسكتوا، والآخر أنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرسل عليهم السلام منعًا لهم من الكلام.وروي هذا عن الحسن، والكلام يحتمل أن يكون حقيقة ويحتمل أن يكون استعارة تمثيلية بأن يراد برد أيدي القوم إلى أفواه الرسل عليهم السلام عدم قبول كلامهم واستماعه مشبها بوضع اليد على فم المتكلم لاسكاته.وظاهر ما في البحر يقتضي أنه حقيقة حيث قال: إن ذلك أبلغ في الرد واذهب في الاستطاله على الرسل عليهم السلام والنيل منهم، وان يكون الضمير في {أَيْدِيهِمْ} للكفار وضمير {أَفْوَاهِهِمْ} للرسل عليهم السلام.والأيدي جمع يد عنى النعمة أي ردوا نعم الرسل عليهم السلام التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والأحكام في أفواههم، ويكون ذلك مثلًا لردها وتكذيبها بأن بأن يشبه رد الكفار ذلك برد الكلام الخارج من الفم فقيل: ردوا أيديهم أي مواعظهم في أفواههم والمراد عدم قبولها، وقيل: المراد بالأيدي النعم والضمير الأول للرسل عليهم السلام أيضًا لكن الضمير الثاني للكفار على معنى كذبوا ما جاؤوا به بأفواههم أي تكذيبًا لا مستند له، {وَفِى} عنى الباء، وقد أثبت الفراء مجيئها عناها وأنشد: وضعف حمل الأيدي على النعم بأن مجيئها عنى ذلك قليل في الاستعمال حتى أنكره بعض أهل اللغة وإن كان الصحيح خلافه، والمعروف في ذلك الأيادي كما في قوله: وبأن الرد والأفواه يناسب إرادة الجارحة، وقال أبو عبيدة الضميران للكفار والكلام ضرب مثل أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للجرل إذا سكت عن الجواب وأمسك رديده في فيه، ومثله عن الأخفش.وتعقبه القتبى بأنا لم نسمع أحدًا من العرب يقول رد فلان يده في فيه إذا سكت وترك ما أمر به، وفيه أنهما سمعا ذلك ومن سمع حجة على من لم يسمع، قال أبو حيان: وعلى ما ذكراه يكون ذلك من مجاز التمثيل كأن الممسك عن اجلواب الساكت عنه وضع يده على فيه. ورده الطبري بأنهم قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا: {إِنَّا كَفَرْنَا} إلى آخره. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون مراد القائل أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضى الذي يقتضيه مجيء الرسل عليهم السلام إليهم بالبينات وهو الاعتراف والتصديق، وقال ابن عطية: الضميران للكفار ويحتمل أن يتجوز في الأيدي ويراد منها ما يشمل أنوا المدافعة، والمعنى ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي إلى ما قالوا بأفواههم من التكذيب، وحاصله أنهم لم يجدوا ما يدفعون به كلام الرسل عليهم السلام سوى التكذيب المحض، وعبر عن جميع المدافعة بالأيدي إذ هي موضع أشد المدافعة والمرادّة.وقيل: المراد أنهم جعلوا أيديهم في محل ألسنتهم على معنى أنهم آذوا الرسل عليهم السلام بألسنتهم نحو الإيذاء بالأيدي، والذي يطابق المقام وتشهد له بلاغة التنزيل هو الوجه الأول، ونص غير واحد على أنه الوجه القوى لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل عليهم السلام كل الإنكار جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول، ولذا أتى بالفاء تنبيهًا على أنهم لم يمهلوا بل عقبول دعوتهم بالتكذيب وصدروا الجملة بإن، ويلي ذلك على ما في الكشف الوجه الثاني ولا يخفى ما في أكثر الوجوه الباقية فتأمل {وَإِنَّا لَفِى شَكّ} عظيم {مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} من الإيمان والتوحيد، وبهذا وتفسير {مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} بما ذكر أولًا يندفع ما يتوهم من المنافاة بين جزمهم بالكفر وشكهم هذا، وقيل في دفع ذلك على تقدير كون متعلقي الكفر والشك واحدًا: إن الواو عنى أو أي أحد الأمرين لازم وهو أنا كفرنا جزمًا بما أرسلتم به فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه؛ وأيًا ما كان فلا سبيل إلى الإقرار والتصديق، وقيل: إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه فكفرنا عنى لم نصدق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك لا ينافي الشك. وفي البحر أنهم بادروا أولًا إلى الكفر وهو التكذيب المحض ثم أخبروا أنهم في شك وهو التردد كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد أو هما قولان من طائفتين طائفة بادرت بالتكذيب والكفر وأخرى شكت، والشك في مثل ما جاءت به الرسل عليهم السلام كفر، وهذا أولى من قرينه، وقرأ طلحة {مّمَّا تَدْعُونَا} بادغام نون الرفع في نون الضمير كما تدغم في نون الوقاية في نحو {أتحاجوني} [الأنعام: 80] {مُرِيبٍ} أي موقع في الريبة من أرابني عنى أوقعني في ريبة أو ذي ريبة من أراب صار ذا ريبة، وهي قلق النفس وعدم اطمئنانها بالشيء، وهو صفة توكيدية.
{مّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعضها وهو ما عدا المظالم وحقوق العباد على ما قيل، وهو مبني على أن الإسلام إنما يرفع ما هو من حقوق الله تعالى الخالصة له دون غيره، والذي صححه المحدثون في شرح ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام يهدم ما قبله» أنه يرفع ما قبله مطلقًا حتى المظالم وحقوق العباد، وأيد ذلك بظاهر قوله تعالى في آية أخرى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 71] بدون من، و{مِنْ} هنا ذهب أبو عبيدة. والأخفش إلى زيادة {مِنْ} فيما هي فيه، وجمهور البصريين لا يجوزون زيادتها في الموجب ولا إذا جرت المعرفة كما هنا فلا يتأتى التوفيق بذلك بين الآيتين، وجعلها الزجاج للبيان ويحصل به التوفيق، وقيل: هي للبدل أي ليغفر لكم بدل ذنوبكم ونسب للواحدي.وجوز أيضًا أن تكون للتبعيض ويراد من البعض الجميع توسعًا. ورد الإمام الأول بأن {مِنْ} لا تأتي للبدل، والثاني بأنه عين ما نقل عن أبي عبيدة. والأخفش وهو منكر عند سيبويه والجمهور وفيه نظر ظاهر، ولو قال: إن استعمال البعض في الجميع مسلم وأما استعمال من التبعيضية في ذلك فغير مسلم لكان أولى. وفي البحر يصح التبعيض ويراد بالبعض ما كان قبل الإسلام وذلك لا ينافي الحديث وتكون الآية وعدا بغفران ما تقدم لا بغفران ما يستأنف ويكون ذاك مسكوتًا عنه باقيًا تحت المشيئة في الآية والحديث، ونقل عن الأصم القول بالتبعيض أيضًا على معنى إنكم إذا آمنتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر واما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في نفسها مغفورة، واستطيب ذلك الطيبي قال: والذي يقتضيه المقام هذا لأن الدعوة عامة لقوله سبحانه: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ فَاطِرِ السموات والأرض *يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} كأنه قيل: أيها الشاكون الملوثون بأوضار الشرك والمعاصي إن الله تعالى يدعوكم إلى الإيمان والتوحيد ليطهركم من أخباث أنجاس الذنوب فلا وجه للتخصيص أي بحقوق الله تعالى الخالصة له، وقد ورد{إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] و{مَا} للعموم سيما في الشرط، ومقام الكافر عند ترغيبه في الإسلام بسط لا قبض، والكفار إذا أسلموا إنما اهتمامهم في الشرك ونحوه لا في الصغائر، ويؤيده ما روى أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله تعالى لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وعبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله تعالى فنزلت {قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية، وقصة وحشي مشهورة، وجرح ذلك القاضي فقال: إن الأصم قد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر وإنما تكون الصغيرة مغفورة من الموحدين من حيث إنه يزيد ثوابهم على عقابها وأما من لا ثواب له أصلًا فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرًا ولا يكون شيء منها مغفورًا، ثم قال: وفي ذلك وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسي بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور إلا ما ذكره وتاب منه اه. ولو سمع الأصم هذا التوجيه لأحذ ثأره من القاضي فإنه لعمري توجيه غير وجيه؛ ولو أن أحدًا سخم وجه القاضي لسخمت وجهه، وقال الزمخشري: إن الاستقراء في الكافرين أن يأتي {مّن ذُنُوبِكُمْ} وفي المؤمنين {ذُنُوبَكُمْ} وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوى في الميعاد بين الفريقين.وحاصلة على ما في الكشف أن ليس مغفرة بعض الذنوب للدلالة على أن بعضًا آخر لا يغفر فإنه من قبيل دلالة مفهوم اللقب ولا اعتداد به، كيف وللتخصيص فائدة أخرى هي التفرقة بين الخطابين بالتصريح غفرة الكل واإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان. وفيه أيضًا أن هذا معنى حسن لا تكلف فيه.واعترض ابن الكمال بأن حديث التفرقة إنما يتم لو لم يجيء خطاب على العموم وقد جاء كذلك في سورة الأنفال (38) في قوله سبحانه: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} وأجيب بأن هذا غير وارد إذ المراد التفرقة فيما ذكر فيه صيغة ويغفر ذنوبكم لا مطلق ما كان عناه ولذا أسند الأمر إلى الاستقراء، ومثل الزمخشري لا يخفى عليه ما أورد ولا يلزم رعاية هذه النكتة في جميع المواد، وذكر البيضاوي في وجه التفرقة بين الخطابين ما حاصله لعل المعنى ذلك أنها لما ترتبت المغفرة في خطاب الكفرة على الإيمان لزمن فيه {مِنْ} التبعيضية لإخراج المظالم لأنها غير مغفورة، وأما في خطاب المؤمنين فلما ترتب على الطاعة واجتناب المعاصي التي من جملتها المظالم لم يحتج إلى {مِنْ} لإخراجها لأنها خرجت بما رتبت عليه، وهو مبني على خلاف ما صححه المحدثون، وينافيه ما ذكره في تفسير {مّن ذُنُوبِكُمْ} في سورة نوح عليه السلام (4)؛ ومع ذا أورد عليه قوله تعالى: {قَالَ ياقوم إِنّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 42] حيث ذكرت {مِنْ} مع ترتيب المغفرة على الطاعة واجتناب المعاصي الذي أفاده {اتقوا} وقوله تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة} [الصف: 10] الآية لعدم ذكر {مِنْ} مع ترتبها على الإيمان، والجواب بأنه لا ضمير إذ يكفي ترتيب ذلك على الإيمان في بعض المواد فيحمل مثله على أن القصد إلى ترتيبه عليه وحده بقرينة ذلك البعض وما ذكر معه يحمل على الأمر به بعد الإيمان أدنى من أن يقال فيه ليس بشيء، وبالجملة توجيه الزمخشري أوجه مما ذكره البيضاوي فتأمل وتذكر.{وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعماركم على تقدير الإيمان ولا يعاجلكم بعذاب الاستئصال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمتعكم في الدنا باللذات والطيبات إلى الموت، ولا يلزم مما ذكر القول بتعدد الأجل كما يزعمه المعتزلة، وقد مر تحقيق ذلك {قَالُواْ} استئناف كما سبق آنفًا {إِنْ أَنتُمْ} ما أنتم {إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} من غير فضل يؤهلكم لما تدعون من الرسالة. والزمخشري تهالك في مذهبه حتى اعتقد أن الكفار كانوا يعتقدون تفضيل الملك {تُرِيدُونَ} صفة ثانية لبشر حملًا على المعنى كقوله تعالى: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أو كلام مستأنف أي تريدون بما أنتم عليه من الدعوة والإرشاد {أَن تَصُدُّونَا} [التغابن: 6] بما تدعونا إليه من التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى: {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} عما استمر على عبادته آباؤنا من غير شيء يوجبه. وقرأ طلحة {أَن تَصُدُّونَا} بتشديد النون، وخرج على جعل أن مخففة من الثقيلة وتقدير فاصل بينها وبينالفعل أي أنه قد تصدونا، وقد جاء مثل ذلك في قوله: والأولى أن يخرج على أن {ءانٍ} هي الثنائية التي تنصب المضارع لكنها لم تعمل كما قيل: في قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] في قراءة الرفع حملا لها على أختها {مَا} المصدرية كما عملت {مَا} حملا عليها فيما ذكره بعضهم في قوله: {فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ} أي إن لم يكن الأمر كما قلنا بل كنتم رسلًا من قبله تعالى كما تدعون فأتونا بما يدل على صحة ما تدعونه من الرسالة حتى نترك ما لم نزل نعبده أبا عن جد، أو على فضلكم واستحقاقكم لتلك المرتبة.قال ابن عطية: إنهم استعبدوا إرسال البشر فأرادوا حجة عليه، وقيل: بل إنهم اعتقدوا محاليته وذهبوا مذهب البراهمة وطلبوا الحجة على جهة التعجيز أي بعثكم محال وإلا فأتوا بسلطان مبين أي إنكم لا تفعلون ذلك أبدًا. وهو خلاف الظاهر، وهطا الطلب كان بعد إتيانهم عليهم السلام لهم من الآيات الظاهرة والبينات الباهرة ماتخر له الجبال الصم أقدمهم عليه العناد والمكابرة.
|